فصل: تفسير الآيات (1- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.سورة الحاقة:

.تفسير الآيات (1- 18):

{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}
الحاقة: القيامة، قال في لسان العرب: سُميت حاقة لأنها تحُق (بضم الحاء) كل إنسان من خير أو شر: ومثلها القارعة: فهي من أسماء يوم القيامة، سميت قارعة لشدة هولها. وما أدرك: أي شيء أعلمك ما هي؟. الطاغية: هي صيحة العذاب والصاعقة التي تأخذ الظالمين. بريحٍ صرصر: ريح باردة مهلكة لها صوت شديد. عاتية: بالغة العنف. سخّرها عليهم: سلطها عليهم. حسوما: تتابعت تلك الايام والليالي واستمرت حتى استأصلتهم. الحسم: القطع. أعجاز نخل خاوية: اصول النخل المقطوعة منذ زمن، فهي جوفاء فارغة. فهل ترى لهم من باقية: فهل ترى لهم أثرا باقيا؟ والمؤتفكات: المنقلبات، وهي قرى قوم لوط. بالخاطئة: بالأعمال الخاطئة الفاحشة. فأخذَهم أخذةً رابية: فأخذهم الله بذنوبهم أخذةً زائدة في الشدة. طغى الماء: زادَ وتجاوز حده وارتفع. حملناكم: حملنا آباءَكم. في الجارية: في السفينة التي تجري على الماء. تذكرة: موعظة. تعيَها: تفهمها وتحفظها. واعية: فاهمة حافظة. حُملت الأرض والجبال: رفعت من اماكنها وازيلت. فدُكتا دَكة واحدة: دُقَّت كلّ منهما وهُدمت. وقعت الواقعة: قامت القيامة. واهية: متداعية. والمَلَك على أرجائها: والملائكة واقفة على نواحيها.
{الحاقة مَا الحآقة؟}.
أي شيء أعلَمَكَ بها أيّها الانسان!؟ إنها فوق ما تسمعه وتراه، وتتصوّره العقول، فهي خارجة عن دائرةِ علومِ المخلوقات، لعِظَم شأنها، ومدى هولها وشدتها.
ثم ذكر اللهُ تعالى بعضَ الأمم التي كذّبت، فنزل بها ما نزل من العذاب، مثل ثمود وعادٍ الّذين كذبوا بالقيامة، فأهلكَ اللهُ ثمودَ بالصاعقة كما جَاءَ في سورة فصّلت {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17]، وهذا معنى الطاغية، والرجفة كما جاء في سورة الأعراف....
واما عادٌ فأهلكهم الله بريحٍ باردة عنيفة، سلّطها عليهم سبعَ ليالي وثمانيَة أيام متتابعةٌ بلا انقطاع حتى أفناهم، {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} كأنّهم أصولُ نخلٍ متآكلة الأجواف فارغة، وأُبيدوا ولم يبقَ منهم أحد.
كذلك فرعون وقومه أخذّهم الله بكفرهم. والمؤتفكاتُ أيضاً، قرى قوم لوط، لأن الله قَلَبَ تلك القرى فجعل عاليَها سافلَها بسبب خطيئتهم ومعصيتهم. وقد ذكر فرعونَ وقومَ لوطٍ وعاداً وثمود اكثر من مرة.
ثم ذكر حادثة الطوفان زمن نوح باختصار.
لما حصل الطوفان وارتفع الماء وجاوز حدَّه حتى علا فوق الجبال- حَمَلْنا آباءكم من مؤمني قومِ نوحٍ في السفينة، وأنجيناهم من الغرق. وذلك لنجعلَ نجاةَ المؤمنين وإغراقَ الكافرين عبرةً لكم وعظة، وتفهَمَها كل أُذُنٍ حافظةٍ سامعةٍ عن الله فتنتفع بما سمعت.
وبعد أن قصّ الله علينا أخبارَ السابقين- شَرَعَ يفصّل لنا أحوال يوم الحاقّة والقيامة والقارعة والواقعة وما يكون فيه من أهوال:
فاذا نَفخ الملَكُ النفخة الأولى يكون عندها خرابُ العالم، فتُزال الأرضُ والجبال عن اماكنها.
{فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة}.
في ذلك اليوم تقوم القيامة، وتتصدّع السماءُ وتتشقّق، لأنها تكون ضعيفة واهية. وترى الملائكة واقفةً على جوانبها.
{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}. من الملائكة الشِداد الاقوياء.
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}.
في ذلك اليوم تُعرضون امام الله وتحاسَبون على كل صغيرة وكبيرة لا يخفى على الله من اموركم شيء.. وهذا كله يجري بأمر الله، لا ندري كيف ومتى يكون، وكل أمور الآخرة مخالفة لأوضاعنا وعقولنا لا ندركها، فندعُ تفصيلَ ذلك.

.قراءات:

قرأ الجمهور {قَبله} بفتح القاف وسكون الباء: أي من تقدمه من القرون الماضية. وقرأ أبو عمرو والكسائي: {ومن قِبله} بكسر القاف وفتح الباء أي ومن عنده من أتباعه. وقرأ الجمهور: {لا تخفى منكم خافية} بالتاء. وقرأ حمزة والكسائي: {لا يخفى} بالياء.

.تفسير الآيات (19- 37):

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}
هاؤم: خذوا. ظننتُ: علمت، أيقنت. راضية: يرضى بها صاحبها. عالية: في القدر والمكان. قطوفها: جمع قِطف بكسر القاف، ما يقطف من الثمر. دانية: قريبة سهلة التناول. هنيئا: يعني كلوا واشربوا سائغا بلا تنغيص ولا كدر. أسلفتم: قدمتم. الأيام الخالية: الايام الماضية في الدنياز يا ليتها كانت القاضية: على حياته فيرتاح ولم يُبعث. ما أغنَى عني ماليه: لم يغن عني مالي الذي جمعته في الدنيا شيئا. هلكَ عني سُلْطَانِيَهْ: ذهب عني كل ما املك من قوة ومال وصحة. غُلّوه: شدوه بالقيود، والغلّ هو القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق. صَلّوه: ألقوه في النار حتى يصلاها. ذرعُها: طولها. فاسلكوه: فاجعلوه في هذه السلسلة الطويلة. حميم: قريب أو صديق. غِسلين: صديد أهل النار.
بعد أن قدّم وصفاً رهيباً ليوم القيامة، وكيف تزول الأرضُ والجبال عن مواقعها وتُدكّ وتنشقّ السماء، وتقفُ الملائكة على جوانبها، ويوضع العرشُ، ويُفتح حسابُ البشر وفي ذلك اليوم لا يخفى على الله شيء- بعد هذا كله أتى بذِكر صورتين متقابلتين من أحوالِ البشَر، وهم: السعداءُ أصحاب اليمين، والأشقياءُ أصحاب الشمال. فأما السعداء فإنهم يتلقَّون كتابَهم بأيمانهم، ويغدُون مسرورين فرحين، يعرِضون كُتبَهم على الناس ليقرأوها. وكل واحدٍ منهم يقول: إني علمت أن ربّي سيحاسبني حسابا يسيرا، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} مرضيّة خاليةٍ مما يكدِّر، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} وهي جنة الخلد ذاتُ المكان الرفيع والثمارِ المختلفة التي يسهُل تناولها. وكلهم في نعيمٍ وحبور ويقول لهم ربهم: {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية}.. كُلوا من ثمار جنةِ الخلد هنيئاً، واشربوا من شرابها مريئا، وذلك كلّه جزاءَ ما قدّمتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية.
واما الأشقياء، وهم الذين كذّبوا الرسلَ، ولم يؤمنوا بالله ولا البعث والحساب- فإن الواحدَ منهم حين ينظر في صحيفة أعماله بعد أن تلقّاها بشماله- ينفر منها ويقول: {ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ياليتها كَانَتِ القاضية}.
يا ليتني لم أتلقّ كتابي، ولم أعلم أي شيء عن حسابي، ويا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها كانت نهايةَ الحياة، لم أُبعث بعدَها ولم ألقَ ما أنا فيه من عذابٍ وسوء منقلَب.
{مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}.
لم ينفعني مالي وما جمعتُ في الدنيا، وذهَب عنّي كلُّ عزٍّ وجاهٍ وصحة وقوة.. ذهبَ ذلك كلُّه وبقيَ العذابُ والوبال.
وعندها يقال لزبانية جهنم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ}.
خذوه وأدخِلوه في النار مقيَّدا، في سلسلة طولها سبعون ذراعا لُفُّوها على جسمه حتى لا يستطيعَ حَراكا. وليس المرادُ أن طولَها كذلك، ولكن القصدَ إهانته وبيانُ هول العذاب. فقد كان لا يؤمن بالله العظيم، وكان بخيلاً ممسِكاً لا يُطعِم الفقراء والمساكين ولا يحثّ الناسَ على إطعامهم. لذلك: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ}
ليس له صديقٌ ولا قريب يدفع عنه في هذا اليوم. وطعامُه من صديدِ أهل النار، الذي لا يأكله الا الخاطئون المذنبون أمثاله ممن أصرّوا على الكفر والجحود وماتوا عليه.

.تفسير الآيات (38- 52):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}
فلا أقسِم: معناها، فأُقسِم. بما تبصرون: بما تشاهدون من المخلوقات وما في هذا الكون العجيب. وما لا تبصرون: كل ما غاب عنكم وما اكثره. ولا بقول كاهن: الكاهنُ مَنْ يتنبأ بالغيب كذباً وزورا، وكان هذا النوع من الناس شائعا عند العرب في الجاهلية. ولو تقوّل: لو افترى علينا. الأقاويل: الأكاذيب، الاقوال المفتراة. لأخذْنا منه: لأمسكناه. باليمين: بيمينه. الوتين: الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسمَ بالدم النقي الخارج من القلب، فاذا قطع هذا العِرقُ مات الإنسان حالا. حاجزين: مانعين. وإنَّه لحقُّ اليقين: وان القرآن الكريم لحقٌّ ثابت من عند الله.
بعد هذه الجولةِ مع الجاحدين وما ينتظرُهم من عذاب في ذلك اليوم الشديد الهول- يعود الكتابُ ليؤكّد أن ما يتلوه الرسولُ الكريم هو القرآنُ الكريم من عندِ ربّ العالمين، وأن الأمرض لا يحتاج إلى قَسَم أنه حقٌ، صادرٌ عن الحق، وانه ليس شعرَ شاعرٍ، ولا كهانةَ كاهنٍ، ولا افتراءَ مفترٍ، فما هو بحاجة إلى توكيدِ يمين.
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ}.
تكرر هذا التعبيرُ {لاَ أُقْسِمُ} في القرآن الكريم، وهو يمين عظيم. وهو كما يقول المتأكد من أمرٍ من المور: لا حاجة إلى اليمين عليه.....
لقد حارتْ قريش في أمرِ الرسولِ الكريم، وتبلبلت آراء زعمائها في ما يتلوه عليهم، فقال بعضُهم إنه كاهن، وقال بعضُهم إنه مجنون، وقال بعضهم إنه شاعر، وقال بعضهم إنه ساحر.. ولم يستقرّ رشأيهم على شيء، حتى إن أكبرَ أعدائه- وهو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، صاحبُ لواء قريش يوم بدر- قال مسفّهاً هذه الآراء كلها بقوله: يا معشرَ قريش، انه واللهِ قد نزل بكم أمر ما أتيتم به بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صِدغيه الشَّيب، وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحرٌّ لا واللهِ، ما هو بساحر. لقد رأينا السحرةَ ونَفَثْهم وعقدهم. وقلتم كاهن! لا واللهِ ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنةَ وتخالُجَهم، وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر! لا واللهِ ما هو بشاعر. قد رأينا الشِعر، وسمعنا أصنافه كلَّها: هَزَجَه وَرجَزه. وقلتم مجنون! لقد رأينا الجنون فما هو كذلك. يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه واللهِ قد نزل بكم امر عظيم.
أُقسِم بما تشاهدون من هذا الكون العجيب وما فيه حولَكم من مخلوقات، وبما غابَ عنكم مما لا تشاهدونه، وما أكثره... أنّ هذا القرآن هو قولُ رسولٍ كريم أنزلَه اللهُ عليه، {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} حيث كان بعض زعماء قريش يقول عنه إنه شاعر {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} وليس هو بقولِ كاهن من كهنةِ العرب كما تزعمون، بل هو: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أنزله على عبده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن أثبت اللهُ تعالى أن القرآن الكريم تنزيلٌ من رب العالمين، ليس بشعرٍ ولا كهانة- أكّد هنا أن الرسولَ الأمين لا يمكن ان يتقوَّلَه، اذ لو فعلَ ذلك لأخذْنا منه بيمينه، وقطَعْنا منه نِياطَ قلبه فيموتُ حالا، فلا يستطيعً أحدٌ منكم مهما بلغتْ قوَّتُه ان يحجِزَ عقابنا عنه. وهذا معنى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}.
ثم بين الله تعالى أنّ هذا القرآن تذكِرةٌ وعِظةٌ لمن يتقي الله ويخشاه، وأنه حسرةً على الكافرين حينما يَرَوْنَ ثوابَ المؤمنين، {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} فهو حقٌّ ثابت لا ريبَ فيه. ولو ان منكم مكذِّبين.
ثم امر رسوله الكريم أن يسبِّح ربه العظيم وينزّهَه، ويشكره على ما آتاه من النِعم، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.

.سورة المعارج:

.تفسير الآيات (1- 18):

{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}
سأل: طلب. ليس له دافع: لا يستطيع أحد رده. المعارج: الدرجات، والمصاعد. واحدها معرج بكسر الميم ومعرج بفتحها، ومعراج. الروح: جبريل. المُهل: المعدن المذاب كالفضة والحديد وغير ذلك، وعكر الزيت. العهن: الصوف. حميم: قريب، صديق. الفصيلة: العشيرة. لظى: جهنم. الشَّوى: واحدها شواة، جلدة الرأس. جمعَ فأوعى: جمع المال وخبأه في وعاء، وبَخِل به ولم يصرف منه في وجوه الخير.
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب، فما هذا العذاب؟ ومتى يكون؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون، منكرين ومستهزئين: متى هذا الوعد؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار. فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة.
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة، لن يستطيع أحدٌ ردَّه، وسيأتيهم من الله تعالى خالقِ السموات وما فيها من مسالك، والذي يعصَدُ جبريل والملائكة اليه في يومٍ طويلٍ شاقّ على الكافرين مقدارُه خمسون الف سنة من ايامنا هذه. ويجوز ان يكون أطول، فليس المرادُ من ذِكر الخمسين تحديدَ العدد، بل بيان شدةِ ذلك اليوم وعظم هوله. فاصبرْ يا محمدُ على استهزائهم واستعجالهم العذابَ {صَبْراً جَمِيلاً}.
ثم بين الله تعالى ان هذا اليومَ آتٍ لا شكّ فيه فقال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً}.
إن الكفار الجاحدين يرون يوم القيامة مستحيلاً لا يَقَع، ونراه واقعاً قريباً غير متعذَّر على قدرتنا، فَلْيحذروه.
ثم ذكر وقتَ حدوث ذلك اليوم وشيئاً من أهواله فقال: {يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل}
إنه يوم شديدُ الهول تذوب فيه السماءُ كالمعادن المنصهرة ويصيرُ لونُها مثل عَكْرِ الزيت أما الجبال فتغدو مثل الصوف المنفوش تتطاير في أرجاء الكون. وفي ذلك الهول الشديد يصير كل إنسان مشغولاً بنفسه، لا يسألُ عن أقاربه ولا أصدقائه.... وإنهم لَيرون بعضهم البعض لكنه لا يسال أحدٌ عن احد، ويتمنى الكافر لو يفدي نفسَه من عذاب يوم القيامة ببنيه، وزوجته، وأخيه وعشيرته التي ينتمي اليها، بل وبجميع من في الأرض، علّه ينجو من العذاب.. {كَلاَّ} لا يمكن ان ينجيه شيء، ولا يُقبل منه فداءٌ ولو جاء بأهل الأرض جميعا. بل إن مصيرَهُم إلى لظى جهنّم الشديدةِ الحرارة حتى تنزعَ جلدةَ الرأس عنه.
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى وَجَمَعَ فأوعى}
انها تنادي أولئك المجرمين الذين تولَّوا عن الدعوة في الدنيا، وأعرضوا عن الحق، وجمعوا المالَ وكدّسوه في خزائنهم، ولم يؤدوا حقّ الله فيه.
فهل هناك اكبر من هذا التهديد والوعيد لمن بَخِلَ بماله، وأعرضَ عن الله ورسوله.... فاعتبِروا يا أولي الألباب.

.قراءات:

قرأ الجمهور: {سأل سائل} بالهمزة. وقرأ نافع وابن عامر: {سال} بغير همزة. وقرأ الجمهور: {تعرج} بالتاء. وقرأ الكسائي: {يعرج} بالياء. وقرأ الجمهور: {ولا يسأل} بفتح الياء. وقرأ ابن كثير: {ولا يسأل} بضم الياء مبنيّاً للمجهول. وقرأ حفص وحده: {نزاعة} بالنصب. والباقون: {نزاعة} بالرفع.